موناكو - التاريخ والثقافة

إمارة موناكو تتمتع بتاريخ فريد من نوعه، لكونها ثاني أصغر بلد لها سيادة خاصة بعد دولة الفاتيكان، والأحداث التي أدت إلى استقلال هذه الإمارة شيقة جدًا، وكان ذلك في عام 1861 بمعاهدة فرانكو موناكو، وهي الآن تعتبر ساحة لعب للأغنياء حول العالم بسبب تسامحها الضريبي وتعاملاتها المباشرة مع فرنسا وبلدان أوروبا عمومًا، على الرغم من استقلالها وامتلاكها وحدات عسكرية صغيرة إلا أن السياسة الخارجية والدفاع عن البلد من المسؤوليات الفرنسية، تتمتع إمارة موناكو بتاريخ حافل بالأحداث المهمة وكذلك غزارة في الثقافة التي تتشابه أحيانًا مع الثقافة الفرنسية وحب كبير للرياضة والمسابقات الرياضية خاصة الفورمولا 1.

العصر الحجري

يرجع تاريخ إمارة موناكو إلى نهاية العصر الحجري، حيث عاشت بعض القبائل الصغيرة على صخرة موناكو التي كانت بمثابة حصن واستقرار للإنسان القديم، ويعتقد العلماء أن هؤلاء البشر هاجروا أصلًا من مدينة جنوى الإيطالية وكانت لهم لغتهم الخاصة فاستوطنوا بالمنطقة الجبلية قبل حوالي 400 ألف سنة قبل الميلاد وهذا ما تؤكده الحفريات المُكتشفة بكهف قديم بالمنطقة.

التاريخ اليوناني الروماني وأسطورة هرقل

في القرن السادس قبل الميلاد تم إنشاء مستعمرة بالمنطقة تُدعى “Monoikos” وهو الاسم الذي اعتمده الرومان فيما بعد واتخذ منه اسم موناكو الحالي، أما عن سبب التسمية فهو يعود لاعتقاد يوناني قديم بمرور الأسطورة اليونانية هرقل بالمنطقة وهو من قام ببناء الميناء وكان له معبد ضخم على صخرة موناكو، فكلمة “Monoikos” تعني البيت الواحد وهو يشير إلى ذلك المعبد، لم يتم اكتشاف باقي لمعبد هرقل وبسبب الكثافة السكانية والأرض الصخرية فمن الصعب القيام بعمليات حفر للاستكشاف، بعد العهد اليوناني سيطروا الرومان على المنطقة والتي كان لها صيت واسع في أخبار وقصص المؤرخين الرومانيين وقد مر عليها العديد من الأباطرة الرومانيين مثل يوليوس قيصر.

العصور المظلمة

ظلت موناكو تحت سيطرة الإمبراطورية الرومانية المقدسة ومُنحت السيادة إلى مدينة جنوى حتى انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية عام 476 ميلاديًا واحتل القوط موناكو، عادت السيطرة البيزنطية إلى المنطقة في القرن السادس على يد جستينيان الأول ولكن سرعان ما انتقلت السيادة إلى الفرنجة في القرن السابع وأخذت الإمارة تتنقل من مملكة وإمبراطورية إلى الأخرى والتي جعلت المنطقة خالية من السكان بسبب الغارات والحروب، وأخيرًا في عام 1191 أي بالقرن الحادي عشر بدأت السكان بالعودة إلى المدينة مرة أخرى، ومنح الإمبراطور الروماني هنري السادس السيادة إلى جنوة، وفي 1215 بدأ السكان ببناء قلعة على صخرة موناكو لتكون حصنًا لهم، وبدأت محاولات عديدة لجذب السكان.

أسرة جريمالدي

تنحدر أسرة جريمالدي من جنوة، بداية العائلة كانت مع القنصل الروماني “Otto Canella” ولكن اسم العائلة يأتي من ابن القنصل “جريمالدو”، حيث جاءت العائلة لتسكن في موناكو ضمن العديد من العائلات البارزة الأخرى التي اختارت الهجرة، وفي عام 1297 سيطرت العائلة بدهاء على صخرة موناكو وبدأت في توسيع نفوذها وكل ذلك تم تحت السيادة مدينة جنوى، وفي عام 1338 شاركت العائلة في حملة بحرية على القناة الإنجليزية جنبًا إلى جنب مع فرنسا وجنوة مما ساهم في ازدهار المنطقة، وفي عام 1633 تم الاعتراف بسيادة مستقلة لأمير موناكو “Honoré” الثاني من سلالة جريمالدي من قبل إسبانيا، واعترفت فرنسا بموجب معاهدة بيرون أيضًا باستقلال وإمارة موناكو عام 1641، واستمرت حكم هذه السلالة إلى يومنا هذا باستثناء فترة الثورة الفرنسية بين 1793 إلى 1814 التي سيطرت فيها فرنسا على المنطقة.

مملكة سردينيا

بعد عام 1814 وهزيمة نابليون سيطرت مملكة سردينيا (المناطق المملوكة من قبل بيت سافويا) على موناكو بعد مؤتمر فيينا إلى عام 1860، وفي خضم الصراعات الإيطالية تنازلت المملكة عن موناكو إلى فرنسا مقابل 4 مليون فرنك على أمل إعادة توحيد إيطاليا، وأخيرًا عام 1861 اعترفت فرنسا باستقلال وسيادة إمارة موناكو لأسرة جريمالدي في معاهدة عُرفت باسم فرانكو موناكو أو فرنسا موناكو، في عام 1863 افتتح كازينو مونتي كارلو الشهير والذي ذاع صيته في العالم كله وجذب السكان والسياح وأصحاب الأموال فازدهرت موناكو خاصة بسبب تسامحها الضريبي، في ثورة 1910 قام الشعب بإجبار الأمير آنذاك بإنشاء دستور 1911 بعد أن كان الحاكم المطلق، ثم بدأت التنمية الاقتصادية خاصة بعد إنشاء خط سكة الحديد مع فرنسا عام 1918، وتمت معاهدة تنص على حماية فرنسية لموناكو على أن تتماشى مصالح موناكو مع فرنسا.

الحرب العالمية والتاريخ الحديث

في الحرب العالمية الثانية كان هناك انقسام شعبي حول ما إذا كان على موناكو أن تنحاز إلى فرنسا كما رغب الأمير لويس الثاني آنذاك، أم تنحاز إلى النظام الفاشي لموسوليني لأن أغلب سكان المنطقة من أصل إيطالي ويتحدثون لغة إيطالية جانب الفرنسية، بنهاية احتل موسوليني موناكو في نوفمبر 1942، ولكن سرعان ما سقطت في يد الألمان في سبتمبر 1943 وبدأت عمليات ترحيل اليهود أو القبض عليهم ونقلهم إلى المعتقلات خاصة المشهورين منهم مثل رينيه بلوم وغيره من قادة أوبرا دي مونتي كارلو والمعارضين للنظام الفاشي، بالنهاية انسحب الألمان في 3 سبتمبر 1944، وتوفى الأمير لويس عام 1949 ليخلفه على العرش ابنه رينيه الثالث الذي استمر حكمه لعام 2005، وبعد توفيه انتقلت الإمارة إلى الأمير الحالي ألبرت الثاني، التعديل الدستوري عام 1962 كفل حق المرأة في الانتخاب، وفي عام 1993 انضمت موناكو إلى الأمم المتحدة وبسبب طبيعتها الخلابة وكازينوهات القمار الشهيرة أصبحت موناكو مركز مهم للسياحة والترفيه.

الهندسة المعمارية في موناكو

تتمتع إمارة موناكو بهندسة معمارية رائعة على الرغم من التزايد الحالي في هدم القصور القديمة للعائلات الكبيرة بسبب المساحة القليلة والكثافة السكانية مع عدم وجود قانون يحمي التراث، فهي تمتلك فنون معمارية مختلطة من الفرنسية، الإيطالية، والإسبانية، وحاليًا تجد أهم تلك الفنون في مباني الكازينوهات خاصة في مدينة مونتي كارلو، عناصر من الزخارف وأرضيات السيراميك متعدد الألوان والشرفات والأبراج الشاهقة كلها لخلق خيال من الرفاهية والمتعة.

صناعة القمار

على نقيض ما قد يظنه البعض فإن صناعة القمار ليست جزءًا من ثقافة البلد وتقاليد شعبها بل هي مجرد صناعة تشتهر بها البلد وتدر أموال طائلة على أهلها، في عام 1846 بدأت حركة القمار تنتشر في فرنسا وكانت أسرة جريمالدي الحاكمة غارقة في الديون خاصة بعد سيطرت فرنسا على مدن روكيوبرون ومنتون التي كانتا مصدر الدخل الرئيسي للعائلة، في عام 1846 في عهد الأمير تشارلز الثالث تم افتتاح كازينو مونتي كارلو ومن هنا بدأت حركة صناعة القمار بالازدياد في موناكو، وسمحت إيرادات الكازينوهات بإنهاء التحصيل الضريبي في موناكو، مما زاد من عدد السياح وأصحاب الأموال رغبوا بالاستثمار وضخ الأموال، وتم انتشال الدولة من الركود السياسي حيث زادت الأعمال التجارية وتم بناء العديد من الفنادق والمتاحف ودار الأوبرا في مونتي كارلو وزاد عدد صانعي المجوهرات، ومن أجل الحفاظ على السكان من عادة القمار تم إصدار مرسوم يحظر السكان من دخول الكازينوهات إلا لو كانوا موظفين.

الرياضة

الرياضة تعتبر جزء من قلب الثقافة في موناكو خاصة سباقات الفورمولا 1 الشهيرة التي تُقام في الشوارع وأشهرهم سباق جائزة موناكو الكبرى، وسباق رالي مونتي كارلو الذي بدأ في عهد الأمير ألبرت الأول، ولا ننسى كرة القدم التي تعتبر لعبة شعبية محبوبة في موناكو حيث يوجد نادي موناكو الذي يلعب في الدوري الفرنسي للدرجة الأولى واستطاع كسب البطولة ثماني مرات، كما استطاع الوصول إلى المباراة النهائية من دوري أبطال أوروبا لعام 2004 ولكنه خسر، يلعب النادي مباراته في إستاد لويس الثاني في موناكو، ولعب في صفوفه مجموعة من اللاعبين الكبار أمثال دادو برشو، فرناندو مورينتس، جيروم روتن، ولودوفيك جيولي، وتيري هنري، وكيليان إمبابي، على الرغم من هذا العشق لكرة القدم إلا إن موناكو لا تشارك في بطولة أمم أوروبا ولا كأس العالم، كما توجد أيضًا بعض الرياضات الأخرى التي تحظى بشعبية أقل مثل الركبي والسباحة وغيرهم.

الموسيقى

تهتم موناكو بالفنون الموسيقية والأدبية والفنية ولديها العديد من المتاحف التي تعرض الرسوم واللوحات الشهيرة لفنانين من موناكو ومن خارجها، ويتأثر العديد من الكتاب والشعراء في موناكو بالأدب الفرنسي خاصة ذلك المكتوب بالفرنسية، ولكن الفنون الموسيقية تحتل مكانة خاصة في قلوب مواطنين موناكو فوق مختلف الفنون الأخرى، حيث طالما شجعت الأسرة الحاكمة في موناكو التنوع الموسيقي والموسيقيين في موناكو وفرنسا، وعبر الأمير رينيه الثالث عن حبه للموسيقى بتأسيس جائزة الأمير رينيه الثالث للتركيب الموسيقي.

لدى موناكو حب عميق للموسيقى الكلاسيكية وتظهر في تأسيس أوركسترا مونتي كارلو فيلهارمونيك عام 1863 والتي قادها العديد من الموسيقيين الكبار عبر التاريخ أمثال لورانس فوستر، Louis Frémaux، Igor Markevitch، وغيرهم من كبار الملحنين، ويوجد في موناكو جوقة للأطفال تأسست عام 1973، كما أن موناكو تعتبر مسقط رأس أحد عمالقة الأغنية الفرنسية وهو ليو فري، وهي أيضًا مسقط رأس مغني البوب الشهير الحالي جوش ستانلي، تشارك موناكو باستمرار في مسابقة الأغنية الأوروبية أو مسابقة يوروفيجن للأغاني وفازت بها عام 1971 بأغنية “Un Banc, Un Arbre, Un Rue”.

مطبخ موناكو

يتمتع مطبخ موناكو بشهرة مزج روعة المذاق الفرنسي وأصالة الطعام الإيطالي اللذيذ، في الربيع يمكنك تذوق ألذ جيلاتي مع المثلجات الإيطالية بمذاق ونكهات مختلفة، بجانب الحلويات المحلية الشعبية في كل أسواق ومتاجر موناكو، وفطيرة “socca” الفرنسية أو طبق “Farinata” الإيطالي، تجدوهم جميعًا مع وصفات أخرى وإضافات رائعة خاصة بشعب موناكو، بجانب أطباق الأسماك والمأكولات البحرية لأنها تقع على البحر الأبيض المتوسط والريفيرا الفرنسية، فلا تنسى تذوق الطعام الشعبي والمحلي في موناكو خاصة من الصناع المحليين في الأسواق والشوارع وكأنك تذهب بالمذاق إلى فرنسا وإيطاليا في ذات الوقت.

بذلك أنت تمتلك خلفية كبيرة وشاملة عن إمارة موناكو ومدى تأثير الثقافة والمطبخ والتاريخ والفنون بفرنسا وإيطاليا، وسيكون من السهل عليك فهم تاريخ المواقع الأثرية وأهميتهم واستيعاب الفنون والمتاحف في موناكو.