بداية فرنسا والتاريخ العسكري والسياسي
استوطن الإنسان الحجري ما تُعرف الآن ب جمهورية فرنسا قبل مليون عام تقريبًا. وهذا ما كشفته الأدوات البدائية الموجودة في مغارة “فالونيه” جنوب فرنسا. وبعد نحو النصف مليون عام زاد هذا الاستيطان كما كشفت الحفريات في مغارة” كون دو لارغـو “شرق فرنسا. ففرنسا تم الكشف عن أقدم جماجم بشرية في أوروبا بأكملها. وفي موقع “سانت آشول” وجد العلماء بعضًا من الفؤوس الحجرية التي ميزت الحضارة الآشولية للإنسان الحجري، التي أخذت تسميتها من الموقع الفرنسي. وتوالت العصور التالية على فرنسا من عصور حجرية وجليدية وبرونزية، والتي تميز بعضها بالفنون الجميلة والأخرى بدخول الزراعة عبر نهر الدانوب. ثم تعلم استخدام الحديد في عصر الحديد، الذي معه بدأت حضارات جديدة في فرنسا وأوروبا، أهمها حضارة بلاد الغال التي شكلت ما يُعرف الآن بفرنسا.
كونت قبيلة الغال مملكة قوية في فرنسا، وكانت على صدام مستمر مع الإمبراطورية الرومانية التي احتلها بالنهاية، إلى أن انتهت الإمبراطورية مع الهجمات المتكررة من الشعوب الجرمانية أو الفايكنج. وعندها بدأت ما يُعرف بالمملكة الفرنكية على يد الملك كلوفيس الأول في فرنسا عام 486 م. والذي تمكن من جمع القبائل المتفرقة والذين دعوا أنفسهم “فرنجة”، ومن هنا جاءت تسمية فرنسا. وكون ما يُعرف بسلالة الميروفنجيين، والتي لم تستمر وانقسمت إلى ممالك صغيرة بين أبناء السلالة، وجاءت بعدها سلالة الكارولنجيين.
ثم أصبحت المملكة إمبراطورية حين توج شارلمان إمبراطورًا على أراضي واسعة في أوروبا من ضمنهم فرنسا. وفي عام 806 م قسم هذه المملكة على أبناءه الثلاثة، ولكن مات منهم اثنين وبقي لويس الأول ليكون إمبراطورًا في عام 813 م. وبعد موت لويس انقسمت الإمبراطورية إلى مملكتين، الأولى مملكة فرنكيا الغربية (ألمانيا حاليًا)، ومملكة فرنكيا الشرقية (فرنسا حاليًا). ليقوم أحفاد شارلمان بعقد واحدة من أقدم الوثائق الأوروبية (قسم ستراسبورج) والتي يعتبرها المؤرخون وثيقة ميلاد فرنسا.
بعد ذلك العصر دخلت فرنسا في عهد طويل جدًا لتصبح “مملكة فرنسا” ويحكمهما عدة سلالات ملكية أهمها سلالة الكبيسيون التي وسعت المملكة، ثم سلالة الكبيسية التي استمرت حتى قيام الثورة الفرنسية عام 1789 م. بالتحديد يوم 14 يوليو حين قام سكان باريس باقتحام سجن الباستيل (العيد الوطني الفرنسي إلى اليوم)، وقاموا بإسقاط الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت النمساوية، حيث ساد الظلم والفساد والمشاكل الاقتصادية، مع نهضة عصر التنوير الذي تمكن فيه أدباء كثيرون من نشر أفكارهم التنويرية التي شجعت بقيام الثورة، مثل جان جالك روسو وفولتير وآدم سميث وغيرهم. وانتهت بها سلطة الكنيسة بعد عصور طويلة من السيطرة التامة. وتحول النظام الملكي إلى جمهوري.
لم تستمر الجمهورية الأولى الفرنسية طويلًا، إذ جاء الإمبراطور العظيم نابليون بونابرت، والذي حكم بيد من حديد وقام بالاستيلاء على معظم الأراضي الأوروبية واحتل أجزاء من أفريقيا. وتم إعلاء مبادئ الثورة الفرنسية التي لم تعجب بلاد أوروبا الملكية، وانتهت الحروب فيما بينهم بهزيمة نابليون، عام 1815. فعاد النظام الملكي من جديد واستمر حتى عام 1830 بقيام ثورة يوليو، لتتحول فرنسا إلى جمهورية للمرة الثانية. وانتهت بهزيمة نابليون الثالث عام 1870. وفي هذه السنة تم إعلان الجمهورية الثالثة في فرنسا.
شاركت فرنسا في الحرب العالمية الأولى، وعانت من أعلى نصيب من الإصابات وأعداد الموتى بين الحلفاء. وفي الحرب العالمية الثانية تمكن هتلر من احتلال فرنسا ودخل باريس بجنوده، وسيطرت الأفكار النازية لفترة وجيزة، ولكن بعد هزيمة هتلر استعادت السلطة الفرنسية سيطرتها على البلاد، ليصبح شارل ديغول أول رئيس لجمهورية فرنسا الرابعة. التي معها قامت نهضة البلاد بشكل كبير، وزادت القوى الصناعية مع نمو اقتصادي مذهل، وتمكنت المرأة من امتلاك الحقوق والعمل بجانب الرجل، بالإضافة إلى حق التصويت. وفي هذا العهد تمكن المستعمرات الفرنسية من الاستقلال مثل الجزائر، مع بقاء بلاد ما وراء البحار. وأصبحت فرنسا واحدة من دول الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي ومن مؤسسي الأمم المتحدة. وهي الآن دولة ليبرالية متطورة تعمل بمبادئ الإخاء والعدل والمساواة والحرية للجميع.
الثقافة الفرنسية
تعتبر فرنسا من البلاد الرائدة ثقافيًا في العالم، فهي معروفة بغنى ثقافتها وامتلاكها لعدد كبير من المثقفين والفنانين والعلماء. فمنذ العصور القديمة وتمتع الفرنسي بحس عالي من الثقافة والفن، ودعمت السياسيات المتتالية الفن بجميع أنواعه، وقاموا في أغلب الأوقات بتدعيم العلماء والمثقفين ماديًا ومعنويًا. كما كانوا دائمًا نموذجًا يحتذى به في العمارة والموسيقى والمسارح والأدب.
الأدب والفلسفة
تمتلك فرنسا نخبة من الأدباء والمفكرين، نذكر منهم فييون أبرز الشعراء الفرنسيين القدامى، حيث وصل لنا من تراث ذلك الزمن “أنشودة رولان”. ثم فرانسوا رابليه مع النثر الفني الذي اشتهر به، والشاعر رونسار. ليأتي العصر الذهبي الفرنسي مع باقة من أقوى الشعراء الكلاسيكيين والمسرح الفرنسي الكلاسيكي، مثل موليير، لافونتين، باسكال، كورنيي، وغيرهم. جان جاك روسو، فولتير، دينيس ديدرو، الذين ظهروا في عصر التنوير وأعلوا من الأدب العقلاني والفلسفي. فكتور هوجو أشهر الفنانين الرومانسيين حيث ساد هذا الأسلوب في القرن الثامن عشر ومن أعماله الشهيرة (البؤساء وأحدب نوتر دام)، مع لامرتين وألفرد دو موسيه، والرواية مع بلزاك وفلوبير. ثم جاءت المدارس الواقعية والرمزية والسيريالية والوجودية والتراجيدية، وكلهم يمتلكون نخبة من أشهر المثقفين العالميين مثل جان بول سارتر وألبير كامو. ولا ننسى أدباء العصر الحديث من الفرنسيين الذين حصدوا جوائز نوبل في الأدب، مثل سولي برودوم، رومان رولان، والفيلسوف هنري برجسون، وغيرهم.
الفن والعمارة والموسيقى
يظهر الفن المعماري الفرنسي بشدة في طريقة بناء وديكور الكاتدرائيات الفرنسية. أشهرهم كاتدرائية نوتر دام التي تظهر روعة الطراز القوطي. ويأتي بعده الطراز الباروكي المتمثل في قصر فرساي الشهير. وأخيرًا فن الروكوكو الذي كانت فيه المرأة هي الملهم الأساسي، وحلق فيه الفنانون فيما وراء الطبيعية.
وفي الموسيقى نبغ كلًا من جين فيليب رامو، وجين بابتست لولي في الأوبرا. وفرانسوا كوبرين في التأليف الموسيقي. وكذلك جاك أركاديلت، فرانك بروسل، وجون بيير دروي. ومن مغنيين العصر الحديث نذكر: ليان فولي مغنية بلوز، سيرج غينسبور مغني جاز، أخناتون، زيفو، تونيزيانو التونسي الأصل من مغنيين الراب والهيب هوب، جاك ديترون مغني الروك. ومن أهم كتاب الأغنية الفرنسية: شارل تروني صاحب الشهرة العالمية لأغانيه عن العشق، ليو فري الكاتب الأقرب إلى قلوب الفرنسيين كما يقولون. وغيرهم من الموسيقيين اكتسبوا شهرة عالمية لا يمكن حصرهم.
ومن الرسامين الفرنسيين نذكر، كلود مونيه، بول سيزان، إدغار ديغا، ويليام بوغيرو، جورج سورا، جون بيير دروي، أنري تولوز لوترك، بول سينياك، أندريه ديريان الذي ستجد أعماله بكثرة في متحف الفن الحديث، فريدريك بازيل في متحف أورسيه، فرناند ليجيه في الفن الحديث والفن التكعيبي. هؤلاء وأكثر أثروا في مدارس الرسم الفرنسية، ولهم أعمال عديدة تملأ متاحف فرنسا (1200 متحف).
المطبخ الفرنسي
تشتهر فرنسا بمطبخها الرائع الذي يتمتع بشهرة عالمية، كما يتمتع الطباخين الفرنسيين بوزن واحترام في المجتمع الفرنسي. الطبق الفرنسي يتم إعداده للتذوق وليس للشبع، وهو يشتهر بالعديد من المكونات الطازجة سواء لحوم أو الخضروات مختارة بعناية. كما تشتهر الصلصات الفرنسية بأنها الأصعب في التحضير والألذ عند التذوق. ومن أشهر الأطباق التي لا يجب أن تفوتك وأنت تزور فرنسا هي: حساء البصل، Coq au vin خاصة إن تذوقت الطبق من يد الطاهية جوليا تشايلد نفسها، لحم البقر بالبورغيغون وهو الطبق الفلاحي الأشهر في فرنسا. سوفليه الشكولاتة الذي لن تتذوق مثيل له في العالم كله رغم شهرته، Confit de canard وهو طبق فرنسي أصيل يحتوي على البط ويتم طهوه ببطء. طبق راتاتوي، والذي اكتسب شهرة عالمية بعد فيلم الأنيمشن “فأر الراتاتوي” ولكن أصله يرجع إلى منطقة بروفانس الفرنسية. ولا تنسى أيضًا فطيرة التفاح الفرنسية، التي تختلف بشكل كبيرة عن فطائر التفاح التقليدية. وعند زيارة السواحل الفرنسية عليك بتجربة أطباق المحار الفرنسي، والأنواع الغريبة الأخرى من الأسماك. وذلك تجربة البيتزا الرقيقة، سلطة نيسواز، بلاكيت دو فو بلحم العجل، وساندويتش بكروك مسيو المصنوع من أفضل الأجبان الفرنسية المشوية.
في فرنسا قبل أن تفكر بالمطعم فكر بالطاهي الذي يقدم وجبات هذا المطعم. هذه هي الطريقة الفرنسية لأنك في الغالب ستقدم تحياتك للطاهي في النهاية إن أعجبك الطعام. كما تأكد من حصول المطعم أو الطاهي على نجوم ميشلان، لأن هذا دليل قاطع على جودة الطعام والمذاق الرائع والنظافة العالية، فلا أحد يتمكن من أخذ نجمة واحدة إلا بعد المرور بالقواعد الصارمة والحس العالي في التذوق.
السينما والتلفزيون
السينما الفرنسية تأخذ حيز كبير من انتباه الفرنسيين، وتتمتع السينما الفرنسية خاصة الحالية برصيد كبير من النجاح العالمي. ومن أهم كتاب السيناريو في فرنسا: فرانسوا تروفو، جان جاك أنو، جان جيونو، و إيمانويل كارير. ومن المخرجين الفرنسيين: جان روشفور، جون لوي فورنييه، وبيير ويليام غلين. مع مجموعة كبيرة من الممثلين والممثلات الفرنسيات الذين لا حصر لهم.
تشجع فرنسا فن السينما من خلال إقامة العديد من الفاعليات والجوائز التي تكتسب شهرة عالمية، أمثال مهرجان كان السينمائي، ومهرجان مرسيليا للفيلم الوثائقي. وكذلك العديد من الفاعليات السينمائية المقامة في باريس. ومن أمثال الجوائز الفرنسية: جائزة سيزار المماثلة للأوسكار في كل عام، جائزة جان غابين للشباب الصاعد، وجائزة لوميير.
الموضة
فرنسا هي بلد الموضة في العالم وعاصمتها باريس هي رمز الموضة العالمية جنبًا إلى جنب مع نيويورك ولندن وميلانو. الأزياء هي صناعة هامة جدًا في باريس التي تزخر بالعديد من بيوت الأزياء العالمية. حيث تشتهر باريس بأفضل الأماكن للتسوق وشراء الماركات العالمية في جميع الأزياء الرجالية والنسائية، بالإضافة إلى الإكسسورات ومساحيق التجميل والأحذية والحقائب. ومن فرنسا تخرج الموضة الجديدة في كل عام. وتٌقام للموضة فاعليات عديدة أشهرها أسبوع الموضة العالمي في باريس. بل تعتبر الموضة واحدة من مظاهر الاحتفالات في باريس، على سبيل المثال ارتداء القبعات المميزة باللون الأخضر والأصفر وبأشكال متجددة وراقية في عيد القديسة كاترينا. بدأ هذا الاهتمام الفرنسي بالموضة منذ القرن السابع عشر، وفي القرن التاسع عشر خرج للعالم من باريس مصطلح “هوت كوتور”، وهو الخياطة التي تهتم بالتفاصيل الدقيقة واستخدام القماش عالي الجودة ليناسب ذوق رفيع المستوى. وصيت الموضة الفرنسية يصل إلى العالم كله منذ العصور الماضية، حيث عُرف عن جمال المساء الفرنسيات واستخدامهن للمساحيق، التي أخذتها النساء البريطانيات منهن.