على مدار مئات السنين عانت بلجيكا من استعمار وحكم روماني ثم إسباني ومن ثم حكم نمساوي، في كل هذه الأزمنة بلجيكا لم تكن سوى مجرد قطعة أرض تابعة لهذه الممالك، لم تكن دولة مستقلة ولم تكن هناك حكومات، ولكن الجيولوجيا والتاريخ يقولون إن الإنسان سكن بلجيكا من فترات طويلة قبل التاريخ الميلادي، وكانت هناك عدة قبائل تدعى القبائل السلتية التي سكنت في هذا المكان وهم منحدرين من بلاد الغال أو الأراضي الجرمانية القديمة، هذه القبائل لم تقيم أي حضارات بل كانت مجرد قبائل بدائية لا يعرفون سوى الزراعة فقط وكانت الديانة الوثنية هي السائدة في ذلك الوقت، وكانت ممارساتهم وشعائرهم الدينية كلها بدون استثناء مختلفة ووثنية، ولذلك لم يخرج من هذا الإقليم لوقت طويل شعب من الشعوب التي نستطيع أن نتحدث عنها بصورة أثرت في مسار التاريخ.
ما قبل العصور الوسطى
من نصف القرن الأول قبل الميلاد إلى القرن الخامس بعد الميلاد، كانت المنطقة التي هي بلجيكا الآن مجرد إقليم تابع للإمبراطورية الرومانية، والذي غير سطوة الرومان على هذه المنطقة هو “كلوفيس” أحد ملوك فرانكيا التي هي فرنسا في يومنا هذا، ومملكة فرانكيا في ذلك الوقت كانت قد طردت الرومان وسيطرت هي على بلجيكا لتصير جزء مهم من المملكة الفرنسية، وفي عام 496 تم تعميم الديانة المسيحية على بلجيكا واستمر حكم عائلة “كلوفيس” ما يقارب القرنين من الزمن حتى القرن السابع عشر حين انتقلت السيطرة على مملكة فرانكيا إلى عائلة أخرى شهيرة وهي عائلة الكارلونجيين، وكان أعظم ملوك هذه العائلة ملك يدعى الملك “شارلمان” حكم ما بين عامي 768 إلى 814 ميلادية.
وفي فترة حكم الملك شارلمان صارت بلجيكا مركز إمبراطورية فرانكيا، في عام 843 قسم أولاد الملك شارلمان الثلاثة إمبراطورية فرانكيا إلى ثلاثة ممالك صغيرة، وعندما وصلوا إلى القرن العاشر كانت عائلة الكارلونجيين قد فقدوا الكثير من سيطرتهم وقوتهم، وبموجب هذا التغير ساد النظام الإقطاعي على مملكة فرانكيا ليقدم الفلاحين والرعاة والمزارعين أموالهم في مقابل عمليات الحماية من النهب، وهذا فرض نظام الطبقية وزاد الفارق بين الطبقات الاجتماعية الدنيا والرفيعة.
حرب الطبقات في القرن الثالث عشر
ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر كانت بلجيكا تحت الحكم الإقطاعي حيث كان الأغنياء هم المتحكمون في البلد بشكل أساسي، ولهم حق المفاوضات مع الدول الأجنبية المجاورة، وكانت لهم عملة ونظام مالي وقوانين مالية تعمل بها البلاد في حين أن إنجلترا في هذا الوقت لم تكن قد وصلت لهذه المكانة الاقتصادية المستقرة، ولكن في المقابل زادت الفجوة الطبقية في الإقليم البلجيكي جعلت الفقراء ييأسون ويبدئون في الثورة ضد الأغنياء وسلطتهم، فذهب الأغنياء والأشراف إلى فيليب أغسطس الثاني ملك فرانكيا في ذلك الوقت حتى يساعد هؤلاء الأغنياء ضد بطش الفقراء، وبالفعل وعدهم فيليب أغسطس بأن يُخضع إقليم فلاندرز البلجيكي تحت حكم التاج الفرنسي حيث كانت فلاندرز أهم سوق صوف في هذا الوقت.
من ناحية أخرى لم ترغب إنجلترا في أن تسيطر فرنسا على فلاندرز حتى لا يتم احتكار السوق لمصلحة فرنسا، فتم عمل حلف مع حكام فلاندرز ضد الملك فيليب أغسطس ولم ينقطع هذا النزاع لوقت طويل حتى أتى الملك فيليب الرابع ملك فرنسا في عام 1297 ويهزم تحالفات فلاندرز، وحين وصل الجيش الفرنسي لاحتلال مدينة بروج ثار عليه عامة الشعب وهزموا جنود الاحتلال الفرنسي فلم يهدأ فيليب بسبب الإهانة التي تعرض لها، وأتى بجيش من المرتزقة ليعيد سيطرته على بروج ولكن العامة من شعب المدينة كانوا قد كونوا جيش بطريقة ارتجالية وتمكنوا بالفعل من طرد قوات فيليب وذبحوا الأغنياء واستولوا على المدينة، واستمتع شعب بلجيكا بهذا الانتصار لمدة 10 سنوات.
العصور الوسطى لبلجيكا
تم حكم البلاد المنخفضة من قبل عائلة تدعى هابسبورج وهي عائلة نمساوية عن طريق زواج ملكي مرر السيطرة على هذه البلاد للنمسا عام 1477، البلاد المنخفضة هي هولندا وبلجيكا وبعض الأقاليم الأخرى من البلاد المجاورة، ولكن في عام 1516 تمت السيطرة على المنطقة المنخفضة من قبل الإسبان وكانت الإمبراطورية الإسبانية في ذلك الوقت تدافع عن العقيدة الكاثوليكية الرومانية بضراوة، لدرجة أنهم كانوا يضطهدون البروتستانت في بلجيكا وهولندا حيث كانت البروتستانتية هي السائدة هناك، وحدثت ثورة عام 1566 ضد الحكم الإسباني من قبل جمهور البلاد المنخفضة وأثمرت هذه الثورة باستقلال هولندا عام 1581 وتم الاعتراف من قبل إسبانيا بهولندا كدولة مستقلة عام 1648.
ولكن هذا لم يشفع لبلجيكا التي كانت لا زالت تحت نير وسيطرة إسبانيا إلى هذا الوقت، بل ودمر انفصال هولندا عن بلجيكا اقتصاد بلجيكا وعانت بعد ذلك على مر العديد من السنوات من الكساد الاقتصادي، حتى عام 1713 التي قدمت فيه إسبانيا بلجيكا للنمسا كقطعة أرض لتسوية الحروب التي كانت قائمة بينهما، وبالفعل غيرت النمسا شكل بلجيكا وتطورت عمليات الزراعة والتجارة هناك ولكن حاول النمساويون أن يبدلوا أنظمة بلجيكا الداخلية كلها، سواء نظم إدارية أو قانونية أو تعليمية دون الالتفات للمجتمع والتقاليد البلجيكية، مما جعل البلجيكيين يثورون على النمسا وبالفعل تخلصوا من سيطرة النمسا عام 1789، ولكن في السنة التالية عادت السيطرة للنمسا مرة أخرى.
تكوين الإمبراطورية البلجيكية
في عام 1794 هجم الفرنسيون لطرد النمساويين من بلجيكا وبالفعل صارت بلجيكا جزء من فرنسا عام 1795، وظلت جزء من الإمبراطورية الفرنسية حتى هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو في بلجيكا عام 1815، بعد الحكم الإمبراطوري الفرنسي ظلت الأنظمة الفرنسية سواء النظم القانونية أو التعليمية هي السائدة، ولذلك توسعت جدًا اللغة الفرنسية، بعد هزيمة نابليون عقد قادة قارة أوروبا مؤتمر لإعادة تشكيل خريطة القارة، وفي عام 1815 تم إعلان بلجيكا وهولندا مملكة واحدة وكان الهدف من هذا التقسيم هو السيطرة على قوة فرنسا التي كانت قد وصلت إلى مراحل مخيفة بالنسبة لجيرانها الأوروبيين، في هذا الوقت تطور الاقتصاد البلجيكي جدًا.
ولكن بسبب اختلاف الشعبين الهولندي والبلجيكي حدثت العديد من المشاكل فيما بينهم لعدم قبول جزء من الشعب البلجيكي بأسلوب الهولنديين في التعليم والثقافة، كما أن البلجيكيين من الروم الكاثوليك أما الهولنديين من البروتستانت، وهاتان الطائفتان في ذلك الوقت من الزمن كانا غير متلائمتان تمامًا، ولذلك على مدار خمسة عشر عام زادت المعارضة البلجيكية، حتى العام 1830 ليثور الشعب البلجيكي على الحكومة الهولندية ويعلن أن بلجيكا هي دولة مستقلة بعد تاريخ كبير من التبعية لعدة ممالك مختلفة على مر التاريخ، وتم الاعتراف من قبل النمسا وفرنسا وبريطانيا وروسيا باستقلال بلجيكا ووقعت هذه البلاد وثيقة استقلال وحياد بينهم وبين بلجيكا، في عام 1831 تم عمل دستور لبلجيكا واختاروا “ليوبولد كوبورج” خال الملكة فيكتوريا ملكة بريطانيا الشهيرة، ليكون هو أول ملك على بلجيكا المستقلة.
الثقافة والتراث في بلجيكا
الثقافة البلجيكية ثقافة مختلطة بسبب الانقسامات اللغوية والطبائع المجتمعية المختلفة بين كل إقليم وآخر، ولكن من ناحية أخرى أثرى الاختلاف الثقافي بلجيكا بالعديد من الثقافات والفنون المختلفة، وربما اللغة هي أكثر من يميز كل ثقافة حيث أن الأمر وصل لأن تدرس بعض الجامعات المواد باللغتين الهولندية والفرنسية، اختلاف الثقافات هذا يجعل بعض الأشياء في بلجيكا استثنائية منها المطبخ البلجيكي، حيث أنه واحد من أشهر المطابخ الأوروبية بسبب اختلاف الأكل وغزارة التنويع في عمليات الطبخ، سواء فيما يخص الحلويات والمعجنات أو فيما يخص المطبوخات والطعام المغذي، وربما أكثر ما يميز المطاعم والحوانيت البلجيكية هي البيرة الطازجة والشكولاتة، والفطائر المختلفة، هذا غير شرائح اللحم بالبطاطس والتي تعتبر الأكلة الشعبية في بلجيكا، أما فيما يخص التراث والفلكلور البلجيكي فهو يلعب دورًا هامًا في الثقافة البلجيكية لأنه يمثل التاريخ الثقافي المتوارث لهذه الأمة، وستجد هناك عدد لا بأس به من المواكب والاحتفالات والأعياد التراثية والمهرجانات المحلية الشهيرة والأعياد الدينية، فهناك كرنفال “BINCHE” الذي يتم فيه موكب للتنانين ويكون في بروكسل وميشلين ومونس.
الفن في بلجيكا
أكثر العصور التي أغنت الفن البلجيكي هي العصور الوسطى، حيث مر عليها الكثير من المستعمرين الذين أثروا إيجابيًا في فن بلجيكا، فمثلًا لوحة الباروك التي تنتمي إلى العصر الفلمنكي، وفنون العمارة الواضحة في المباني الأثرية المختلفة في بلجيكا والتي معظمها تم تصميمه على الطراز القوطي والفلمنكي، وصولًا إلى القرن الخامس عشر الذي كان فيه الفن الديني هو السائد من لوحات وبناء كنائس على الأطر المختلفة، وربما من أهم رسامي اللوحات الدينية في ذلك الوقت هم روجير فان دير ويدن وجان فادياك، أما القرن السادس عشر انتقل الرسامين فيه إلى الاهتمام بالطبيعة، وبعد ذلك في القرنين التاسع عشر والقرن العشرين ازدهر الرسم الرومانسي والسريالي بطريقة كبيرة.
أما فيما يخص الفن الموسيقي البلجيكي، فالموسيقى التراثية هناك تقريبًا غير موجودة، وهذا لأن بلجيكا لم تكن دولة مستقلة سوى من 150 عام تقريبًا، لذلك ستجد هناك الموسيقى الفرنسية وهي الطاغية نوعًا ما على الثقافة البلجيكية، ولكن يُحسب للبلجيكي أدولف ساكس أنه هو الذي اخترع آلة الساكسفون التي باتت بعد ذلك واحدة من أهم ركائز الموسيقى الغربية والجاز خصوصًا، ولذلك تجد أنه في الوقت الحالي أكثر أنواع الموسيقى هناك هي الجاز، أما بالنسبة للآداب فهناك كُتاب بلجيكيين معروفين مثل الشاعر البلجيكي الشهير إميل فيرنين والروائية سوزان ليلار، والكاتب المسرحي موريس ميترلينك الحائز على جائزة نوبل للآداب.