التاريخ والثقافة من الأمور المؤثرة على تعاملاتك مع شعوب تنتمي لحضارات مُغايرة، إلا أن الأمر أكثر أهمية في حالة ألمانيا، ففي تاريخ الألمان نقاط سوداء يُحاولون تناسيها وأخرى لا يسمحون لأحد بالمساس بها، كما أن لهم أمور نشأوا على أن تكون هي الأهم ومحور أحاديثهم دومًا. لذا فإن أردت كسب ود وصداقة ألماني فاقرأ الكثير عن تاريخه وثقافته من خلال هذا التقرير الشامل.
تاريخ ألمانيا القديم
من يُتابع أحداث الحاضر في ألمانيا وكم التطور المعيشي والتقدم الذي وصلت إليه في مجالات الحياة المُختلفة قد يندهش عند النظر إلى تاريخها البدائي الذي تسيطر عليه القبلية، فألمانيا في أصولها تأسست في عصور سحيقة للغاية خلال العهد البرونزي من اجتماع قبائل نشأت في منطقة الراين وأدنى الشمال الأوروبي تُعرف بالقبائل الجرمانية. وبمرور الوقت وصولًا للقرن الأول قبل الميلادي نجحت تلك القبائل في التوسع والسيطرة على الأجزاء الشرقية والغربية والجنوبية من القارة الأوروبية وصولًا لجبال الأورال، ربما من خلال خلق تواصل وصلة جيدة مع مجموعة من القبائل التي سكنت المناطق الشرقية كالكلت الغولية والسلافية والبلطيقية والفارسية.
بالإضافة إلى ظهور قبائل جديدة في المناطق الغربية عُرفت بالجرمانية الغربية خلال القرن الثالث الميلادي هي مزيج من أعراق مُختلفة كالسكسونيين، الفريزيون، الفرنجة، الألامانيون وغيرهم ولا زالت اللغات القديمة التي كانت تُستخدم بين أفراد هذه القبائل دارجة حتى الآن في ألمانيا ولو بنسب محدودة. وخلال الحقبة الحديدية التي شهدت توسعًا للنفوذ الروماني عبر مشارق الأرض ومغاربها اشتعلت حرب ضروس استمرت لقرون مديدة بدأت بين الإمبراطور يوليوس قيصر والقبائل الجرمانية التي ظلت مُحافظة على عاداتها وتقاليدها وأسلوب حياتها القبلي طيلة فترة نضالها ضد الرومان حتى سقوط الإمبراطورية الرومانية على يد البربر في القرن الخامس الميلادي وامتداد سيطرة الجرمانيين حتى حدود الدانوب واللآيم.
وقُبيل القرن التاسع بقليل كان القائد شارليمان الشهير بشارل العظيم قد نجح في لم شمل القبائل الجرمانية تحت راية ما عُرف بإمبراطورية الفرنجة “ألمانيا وفرنسا الحاليين وممالك أخرى” وتُوّج قيصرًا عليها لمدة أقل من 50 عامًا، قبل أن تتشتت الإمبراطورية في عهد أبنائه وتنقسم إلى قسمين: الفرنجة الغربية “فرنسا” والفرنجة الشرقية “ألمانيا”.
ويشهد النصف الثاني من القرن العاشر وبالتحديد الثاني من فبراير للعام 962 الميلاد الأول للكيان المعروف بألمانيا حاليًا بعد تتويج قيصر الفرنجة الشرقية “أوتو” كحاكم أو رايخ أول للمملكة بجناحيها الشرقي والغربي، وبرغم مُحاولاته المُستميتة لدرأ الانقسام الإداري والسياسي الذي شاب بعض المُقاطعات الألمانية “الإمبراطورية الحرة” وجمعها تحت راية واحدة إلا أن جميعها باءت بالفشل ليستمر مُجرد حاكمًا صوريًا للبلاد التي حملت اسم “الإمبراطورية الجرمانية الرومانية المُقدسة”.
العصور الوسطى
ورغم كل هذا الكم من الانقسامات التي لم تدع الدولة حديثة العهد تهنأ بسنوات ميلادها الأولى، فقد دخلت ألمانيا في مرحلة جديدة من الصراعات ولكنها دينية هذه المرة، بعد تيار الإصلاح البروتستانتي الذي قاده الراهب الشهير مارتن لوثر في بدايات القرن السادس عشر في وجه التيار الكاثوليكي الروماني الغالب مما قاد البلاد إلى سلسلة طويلة من الحروب الأهلية أخذت في وجهها 30 عامًا من تاريخها و30% من تعدادها السكاني أيضًا. إلى أن انتهت سنوات الحرب بصلح 1648 الذي رغم إنهائه للحرب الأهلية إلا أنه خلّف ورائه ولايات ضعيفة ومُنقسمة على نفسها أدت بعد قرنين من الزمان إلى وقوع الإمبراطورية كفريسة للاستعمار النابليوني بعد تسليمها من قِبل عائلة هابسبورغ الحاكمة.
وخلال سنوات سيطرته الثمانية على جرمانيا وبدلًا من أن يعمل على توحيدها قادها نابليون إلى مزيد من التفكك إلى ولايات أصغر وصل عددها إلى 80 ولاية، اتحد منها 41 ولاية بعد مؤتمر فيينا تحت راية ما يُعرف بالاتحاد الألماني أو المجلس القومي بفرانكفورت بإشرافٍ نمساوي حتى عام 1866 حيث أزاح الإمبراطور فيلهلم الأول النمسا بسبب دورها في الثورة التي قادها الشعب الألماني ضده للمُطالبة بدولة ليبرالية. تلا ذلك عزل فرنسا عن الخريطة الاستعمارية طيلة ربع قرن بعد توليته قيصرًا لألمانيا عام 1871 ثم عقد سلسلة تحالفات ضمنت لبلده نصيب الأسد من المُستعمرات الآسيوية والإفريقية واللاتينية أيضًا.
ولم يدم الحال على ما هو عليه؛ فما فعلته ألمانيا أنقلب ضدها بعد انتهاء مدد تحالفاتها لتجد نفسها في معزل عن الخريطة الاستعمارية بعدما عقدت فرنسا عدة تحالفات أوروبية حاصرت تطلعات ألمانيا الاستعمارية من خلالها فلم يعد يتبقى لها إلا الفُتات، الأمر الذي أدى لاندلاع الحرب العالمية الأولى ودخول ألمانيا فيها كطرف حليف للنمسا.
ألمانيا والحروب العالمية
عانت ألمانيا كقيادة وشعبًا من خسائر الحرب العالمية الأولى، فعلى مستوى الشعب لم تغب الخسائر البشرية والفقر المُدقع عن أسرة ألمانية تقريبًا، وأما القيادة الحاكمة فقد اضطرت للتنازل عن الحكم عقب ثورة عسكرية شعبية اشتعلت في نهايات 1918 كانت حجر الأساس لجمهورية ألمانية عُرفت باسم جمهورية فايمار، كان لها دستور ونظام حكم ديمقراطي قاده أول رئيس مُنتخب وهو فريدريش إيبرت. ولإنهاء وتيرة الحرب المُدمّرة كان لا بد من توقيع مُعاهدة تصالح بين طرفيها عُرفت بمُعاهدة فرساي كانت هي الشرارة الأولى لظهور النازية واندلاع حرب عالمية جديدة بسبب ما فرضته دول التحالف المُنتصرة طوال هذه المدة من عقوبات اقتصادية وعسكرية وسيطرة استعمارية على دول المحور.
بدأ تولي هتلر “الرايخ الثالث” للسلطة عام 1933 تحت لواء حزبه النازي باختراقه للدستور الألماني واستغلاله لحريق البرلمان في فرض قانون للطوارئ ينزع من المواطن حقوقه وحرياته الأساسية ويجعله مُعرضًا للاعتقال في أية لحظة. وامتد تأثير الدكتاتورية النازية ليطول معاهدة فرساي؛ حيث رفع هتلر من استعدادات الجيش الألماني وسيطر على مناطق كانت منزوعة السلاح بموجب المعاهدة، مما أدى لاندلاع حرب عالمية ثانية بنفس التحالفات السابقة كاد المحور أن يُحقق خلالها انتصارًا ساحقًا لولا تراجع إيطاليا وعدم قدرة ألمانيا على الاشتباك في أكثر من جبهة. وتقدم قوات التحالف نحو الأراضي الألمانية وسقوط برلين، الأمر الذي انتهى بإعلان الهزيمة وخسائر بشرية ومادية جسيمة وانتحار هتلر عام 1945.
وكان بزوغ الألمانيتين الشرقية والغربية إحدى تداعيات الحرب الخطيرة؛ حيث عاش الألمان سنوات من الازدهار السياسي والاقتصادي والمعيشي عبر دولة برلمانية فيدرالية اشتراكية في الغرب تحت إدارة بريطانية فرنسية أمريكية وعاصمتها بون، مُقابل سنوات من الركود في الشرق الديمقراطي تحت الإدارة السوفيتية وعاصمته برلين. ما أدى إلى نزوح الكثيرين من المُعسكر الشرقي إلى ازدهار وسعة نظيره الغربي ما دفع السوفييت لبناء سور برلين الشهير عام 1961 لمنع الهجرة بين الألمانيتين، واستمر الأمر حتى اندلعت المظاهرات في الشرق عام 1989 وبدأت الإدارة السوفييتية تُخفف من إجراءاتها التعسفية ضد الهجرة مع فتح المجر لحدودها بين الألمانيتين تسهيلًا لأمور الهجرة بينهما.
وفي العام 1990 هُدم سور برلين العازل بين الألمانيتين ونالت ألمانيا استقلالها التام لتصبح دولة فدرالية اتحادية “موحدة” عضوًا بالاتحاد الأوروبي، ويُصبح لها دور فعال في عمليات حلف الناتو ضد تنظيم طالبان الأفغاني، ثم يوافق البرلمان على إعلان برلين كعاصمة لألمانيا الاتحادية بينما بون مدينة اتحادية بمثابة العاصمة الثانية للدولة عام 1994.
ثقافة ألمانيا
اللغة والأدب
اللغة الألمانية هي اللغة الوطنية الشائعة في الدولة إلى جانب 4 لُغات صُنفت كلغات رسمية للأقليات هي الصربية، الدنماركية، الفريزية، الرومانية. هذا إلى جانب إتقان معظم الألمان للغة أو لغتين بجانب اللغة الأم لتسهيل التواصل والتعايش ونتيجة لضرورة الاختلاط مع فئات المُهاجرين. أما اللغات الشائعة بين المُهاجرين والتي تتناسب مع نسبة تواجدهم في ألمانيا فهي الروسية، البلقانية، التركية، البولندية، الكردية، والسريانية. كانت ألمانيا وعلى مر تاريخها منبعًا أثرى الساحة الأدبية بشعراء وفلاسفة ومُفكرين عظام ساهموا في وضع نظريات فلسفية كان ولا يزال لها أثرها الملموس على الساحتين السياسية والاقتصادية في العالم أمثال: كار ماركس زعيم الشيوعية، ويورغن هابرماس مُطوّر النظرية الاشتراكية.
أما على مستوى الأدب فقد شهد الأدب الألماني الذي امتد تأثيره لجميع البلدان الناطقة بالألمانية في أوروبا الوسطى ازدهارًا ملموسًا خلال القرنين 12 و19 بظهور أدباء مثل: فولفرام فون در إشينباخ، الأخوين غريم، يوهان فولفغانغ فون غوته وغيرهم الذين جعلوا من القصص الشعبية الألمانية المُستمد أغلبها من موروثات دينية واجتماعية وحضارية أوروبية أداة عالمية للتعريف بألمانيا ونشر ثقافتها. ومع كل هذا الكم والكيف من تاريخ الإثراء الأدبي والفلسفي فلا مجال للدهشة حينما تعلم أن هناك سنويًا ما يزيد عن 90 ألف كتاب هادف يتم طباعته في ألمانيا، وأن هناك معرضين للكتاب هما الأكبر من نوعيهما أوروبيًا وعالميًا يتهافت على حضورهما مئات الآلاف سنويًا، فمن المؤكد أن ذلك قد أعطاك انطباعًا عن كم شغف الألمان بالقراءة والثقافة العامة والذي ستكتشفه بنفسك من خلال الحديث مع أحدهم.
المسرح
شهد القرن السابع عشر بداية أول إنتاج وأول فرقة مسرحية أنشأها الأب الروحي للمسرح الألماني كونراد إكهوف، كما شهد أيضًا بداية قصة عشق أبدية ربطت الألمان بمسارحهم إلى الحد الذي جعل المسارح الحكومية المئة والخمسين “بعضها أثري الطابع” غير كافية لتفي باحتياجات 35 مليون متفرج سنوي لينشأ بجانبها مئتا وثمانين مسرح خاص ينظمون جميعهم 110 عرض مسرحي و527 عرض أوبرالي على مدار العام.
ولعل من أكبر المسارح التي تشهد إقبالًا من المُتفرجين على مدار العام دار الدراما والأوبرا والباليه في شوتغارت بمعدل 450 ألف متفرج وأكبرها سعة مسرح هامبورغ ذي 1200 مقعد. أما دور الأوبرا فأكثرها من حيث عدد العروض المُنظمة دار أوبرا برلين بينما أكبرها سعةً أوبرا بايرويت ذي 2500 مقعد. وعلى عكس المسرح فإن الألمان أقل مُتابعة واهتمامًا بالعروض السينمائية، فقد يقضي الألماني العام دون أن يذهب للسينما سوى مرتين.
الموسيقى
تُعد ألمانيا هي السوق الرابع لإنتاج الموسيقى على مستوى العالم، ففيها نحو 131 أوركسترا أقدمها يعود لبدايات القرن 16، إلى جانب 64 ألف موسيقي مُتخصص و3 ملايين من الهواة، إلى جانب تنظيمها للآلاف من الفعاليات والمهرجانات الموسيقية السنوية التي يحضرها مئات الآلاف من الجمهور كمهرجان موسيقى الروك في نوربيرغ، مهرجان بيتهوفن في بون، مهرجان فاغنر في بايرويت، والعديد من المتاحف التي تُخلد حياة الموسيقيين الألمان الأكثر شهرة مثل متحف باخ بمدينة أيزناخ.
فالألمان ليسوا فقط أصحاب إبداعات في مجال الموسيقى؛ فمن يغفل عن الأعمال الخالدة لبيتهوفن وباخ وشتراوس وغيرهم كثيرين، وإنما هم أصحاب ذوق رفيع وغني وموهبة لا تنضب في هذا المجال.
الفنون التشكيلية
تحتل ألمانيا المركز الثاني عالميًا في قطاع الفنون التشكيلية بعد الولايات المتحدة إذ تضم نحو 9804 معرض فني يتم تنظيمه على مدار العام أغلبها يتركز في العاصمة برلين.