النمسا - التاريخ والثقافة

بلا شك دولة مثل النمسا لا يُمكننا أبدًا أن نضعها في خانة أخرى بخلاف خانة العراقة، والدول العريقة غالبًا ما تمتلك مخزون كبير من التاريخ والثقافة والفن كذلك، وهذا الأمر ينطبق تمامًا على دولة النمسا التي نتحدث عنها، إذ أنه ثمة تحولات تاريخية كبيرة شهدتها البلاد على مدار فترة وجودها، وقد أثرت تلك التحولات على ثقافتها وظهرت على شكل عدة مظاهر هامة، عمومًا، في السطور القليلة المُقبلة سوف نحاول المرور السريع على هذين المحورين المهمين للغاية، والبداية ستكون طبعًا مع الأصل، مع التاريخ، فما الذي يُمكننا قوله عن تاريخ النمسا يا تُرى؟

التاريخ في النمسا

كانت مملكة النوريكوم هي البداية الحقيقية لدولة النمسا، تلك المملكة التي بدأت قبل حوالي خمسة عشر قرنًا من بداية التاريخ الميلادي على يد الروم، ومنذ ذلك التوقيت بدأت النمسا تتشكل في صورة مجموعة من المدن المنبثقة عن تلك المملكة، وقد كانت فيينا هي البداية الحقيقية لهذا الانبثاق، صحيح أنها كانت تحمل اسمًا آخر لكنها لا تزال فيينا التي نعرفها الآن، ثم بعد حوالي مئة وثمانين عامًا من ميلاد المسيح بدأت سيطرة الروم على النمسا تختفي شيئًا فشيئًا حتى اندثرت تمامًا وأصبح الألمان الأوائل هم المسيطرون على كافة مقاليد الحكم في البلاد، وأخيرًا، ومع اقتراب القرن الأول من الاكتمال، وتحديدًا في عام 996، بدأت ملامح دولة النمسا في التشكل وتقترب كثيرًا من الصورة التي تتواجد عليها الآن، ببساطة، لم تعد النمسا، من ناحية التابعية، تابعة لأي امبراطورية أو سلطة أخرى أجنبية عنها، وإنما نشأت دولة النمسا بالمعنى القديم للدولة وأصبح من حق أفراد الشعب أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، وهذه الخطوة في الحقيقة جاءت مبكرًا جدًا مما يثبت الرغبة الحقيقية في الانفصال، عمومًا، مع مطلع القرن الثاني من الألفية الثالثة ظهر الحاكم ليوبولد الثاني الذي كان شاهدًا على عصر النهضة كما يقول الجميع، وفي هذا العصر وصلت النمسا إلى أعلى مستوى يُمكن الوصول إليه في التقدم والرقي، لكن هل توقفت الأمور عند هذا الحد؟

بعد موت ليوبولد الثاني بدأت امبراطورية النمسا في السقوط تزامنًا مع وصول الحكم العثماني إلى أوروبا وبسطه لسيطرته على أغلب المناطق بها، والتي كان من ضمنها النمسا التي نتحدث عنها، ليُقام منذ ذلك التوقيت صراع كبير شهد أكثر من حرب وأكثر من ثورة حتى تم تأسيس جمهوريتين متتاليتين واستقرت النمسا أخيرًا بعد أن تخلصت من كافة التدخلات الأجنبية عنها وباتت تحكم نفسها بنفسها، وهي خطوة جاءت مبكرًا أيضًا عن بقية النقاط الأوروبية الأخرى التي ربما لم ينتهي الحكم العثماني بها سوى في القرن الثامن أو التاسع عشر، عمومًا، من المظاهر التي شهدها تاريخ النمسا ولا تزال قابلة للملاحظة حتى الآن أن أغلب الحملات الصليبية، والتي خرجت لمواجهة دول المشرق العربي بقيادة صلاح الدين، انطلقت في الأساس من النمسا، وهذا ما يُبرهن على أهمية الدولة ودورها في قيادة لواء المسيحية في هذه الحرب الهامة، على كلٍ نبقى كما نحن مع المظاهر، والحديث الآن يتحول إلى مظهر مهم جدًا ومؤثر، وهو المظهر الثقافي، فما الذي يُمكننا قوله عن الثقافة في النمسا يا تُرى؟

الثقافة في النمسا

التاريخ الذي تركته دولة النمسا يُمكن أن يتضح بسهولة من خلال بعض النقاط، أهمها الثقافة، حيث أنه بصورة غير مقصودة خرجت الثقافة في النمسا بأفضل صورة يُمكن أن تخرج عليها، بل أنها قد باتت تُعرف الآن بكونها مدينة الثقافة والفن، وإذا عرجنا إلى الفن فبالتأكيد يجب التوضيح بأن الفن الأبرز بهذه البلد هو فن الموسيقى، وبالتالي فإن أكبر شخص استخدام الموسيقى في العالم وأعطى لها روحًا كان من النمسا، وهو الموسيقار موزارت، وبالحديث أكثر عن الموسيقى بكونها مظهر من مظاهر الثقافة يُمكننا أن نلحظ كذلك أن العازف بيتهوفن، وعلى الرغم من كونه ألماني الأصل، إلا أنه قد قضى معظم حياته داخل العاصمة فيينا وكان يعتبرها العاصمة الأصلية للموسيقى الكلاسيكية، بل كان يقول كذلك بأن هذه المدينة رمز للموسيقى في العالم بأكمله، فقديمًا إذا ذكرت النمسا ذكرت الموسيقى، وإذا ذكرت الموسيقى ذكرت النمسا، وهكذا دواليك، لكن، هل هذا كل شيء يُمكننا قوله عن الثقافة في النمسا؟ بكل تأكيد لا.

الثقافة تُعبر بشكل أو آخر عن هوية الدولة، ومن مكونات هذه الهوية فن المعمار، ومن هذا المنطلق حدث ولا حرج، إذ أن فن المعمار في النمسا قد شهد أفضل فتراته خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، فكان أعظم مهندسي العالم من النمسا، وكانت أغلب القصور التي تُبنى في هذا التوقيت عبارة عن لوحات حقيقية وليس مجرد قصور أو أبنية معمارية عادية، وقد لعبت هذه الناحية تحديدًا دورًا كبيرًا وعظيمًا في إعلان شأن النمسا وشأن الثقافة بها، فقد كان هؤلاء المهندسون ينتشرون في كل مكان في العالم ويقومون ببناء القصور والأبنية بالممالك الأوروبية، وبالتالي يسهمون في نشر الثقافة النمساوية، حتى ولو كان ذلك يتعلق فقط بالثقافة المعمارية، وعلى الرغم من كون الموسيقى والمعمار اللذان تحدثنا عنهما الآن نوعين بارزين جدًا من الفنون إلا أن الفن في النمسا يحتاج في الحقيقة حديثًا مفصلًا عنه، فلماذا يا تُرى؟

الفن في النمسا

شهدت الحركة الفنية في النمسا نقلات كبيرة وكثيرة تتعلق بنوعيات الفنون المختلفة، أهمها فنون الموسيقى والمعمار اللذان تحدثنا عنهما، لكن هنالك أيضًا مجموعة أخرى من الفنون قد تمكنت من تسجيل حضور قوي ومُلفت لها بأقل مجهود ممكن، ومن هذه الفنون الرقص مثلًا، فالرقص النمساوي رقص مميز للغاية لدرجة أنه ثمة مدارس دولية تقوم بتعليمه كلون خاص ومميز من الرقص، أيضًا كانت الفنون التشكيلية حاضرة حضورًا قويًا، وكذلك فن الرسم الذي كان الفنان العالمي فرديناند جورج أحد رواده في النمسا، وقد أثر ذلك النوع من الفنون على الحركة الثقافية بسبب إقامة الكثير من المعارض له، وأيضًا لا يجب أن ننسى الفنون الحديثة التي أصبحت الشغل الشاغل للعالم الآن والأسلوب الأول في الترفيه بالنسبة له، والحديث هنا عن فنون السينما والمسرح، فبالنسبة للمسرح نجد أن النمسا من الدول الأوروبية القليلة التي لا تزال حتى الآن مُعتزة بالمسرح، وهذا الأمر يظهر بجلاء من خلال وجود الكثير من المسارح الدولية التي تعرض مسرحيات عالمية، وبالنسبة لفن السينما فهناك مهرجانات سينمائية تُقام في النمسا وهناك كذلك الكثير من دور العرض، لكن لعدم المبالغة يجب علينا التنويه بأن صناعة السينما ليست رائجة بالشكل الكبير، إلا أنها في النهاية موجودة.

طبعًا ما تم ذكره الآن عن الثقافة والفن والتاريخ في دولة النمسا لا يُعبر عن الصورة الكاملة المُتكاملة، أو بالمعنى الأدق دعونا نقول إن هذا مجرد غيض من فيض، لكن ذلك الغيض كافٍ بالتأكيد لتكوين فكرة مُناسبة، وإن كان من المهم جدًا بالطبع التعرف على تاريخ وثقافة البلدان قبل السفر إليها لأن ذلك سيساعد في إتمام المتعة السياحية بلا شك.