التاريخ العسكري وبداية باريس
سكن الإنسان المناطق المحيطة بباريس منذ حوالي 4500 سنة قبل الميلاد. ولكن التاريخ الحقيقي يبدأ عندما استوطنت قبائل “باريسي” من بلاد الغال ضفاف نهر السين قبل 250 عام من الميلاد. بعد 200 سنة بدأت الإمبراطورية الرومانية بالازدهار واستطاعت احتلال المدينة والسيطرة على قبائل الغال، وتم تسمية المدينة “لوتيشيا”. كبرت المدينة في عهد الرومان وزاد سكانها، وبُنيت المسارح والحمامات والقصور. انهارت الإمبراطورية الرومانية لتنهار معها هيبة المدينة ويهجرها السكان. حتى حلول العام 360 ميلاديًا حيث أعلن يوليان المرتد نفسه إمبراطورًا ومكث في باريس بعد أن استعادت اسمها، لتصبح عاصمة الإمبراطورية الغربية إذ إنها انفصلت عن الإمبراطورية البيزنطية.
بحلول القرن الخامس كانت المدينة عاصمة للملك الفرنجي كلوفيس الأول، الذي استطاع توحيد قبائل الفرنكيين. ولكن مع أواخر القرن الثامن صعدت سلالة كارولنجيون للحكم واتخذت من مدينة آخن الألمانية عاصمة لها، فتعرضت المدينة لخطر هجمات الفايكنج الشرسة، الذين نهبوا المدينة رغم بناء حصنها. حتى عادت المدينة لمجدها بل ولدت باريس من جديد عند تتويج أوغو كابيه ملكًا، وتصبح باريس عاصمة مرة أخرى.
في العصور الوسطى التالية تخبطت باريس ما بين فترات ازدهار وفترات من الثورات والحروب أهمها حرب المئة عام، التي احتل فيها الإنجليز عرش فرنسا وسيطروا على باريس، والحروب الدينية بين الكاثوليك الأغلبية والبروتستانت الأقلية. كما فتكت العديد من الأمراض بأهل باريس سنويًا أهمهم الطاعون. تتزامن هذه الفترة مع الحروب الصليبية التي شاركت فيها قوات فرنسا في الحرب على بلاد الشام والقدس. وعرفت باريس في هذه العصور بعضًا من أهم ملوك فرنسا مثل “فيليب أوغست” الذي بنى جامعة باريس بعام 1200. ولويس الرابع، ولويس الرابع عشر الذي بدأت معه حقبة جديدة في فرنسا، حينما نقل مقره إلى قصر فرساي بباريس. وشهدت أخر تلك الحقبة نهوض الثقافة والعلم والآداب وامتدت لفترة طويلة عُرفت بعدها بعصر التنوير، في القرن الثامن عشر. إذ أصبحت باريس منارة العلم في أوروبا.
الثورة الفرنسية ونابليون بونابرت
بنهاية القرن الثامن عشر، انحدر الحال بشكل سريع في فرنسا. وأصبح الشعب تحت فقر شديد مع زيادة غير مسبوقة في الأسعار. وبدأت عدة ثورات واحتجاجات على الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت. وفي 14 يوليو 1789، اقتحم سكان باريس سجن الباستيل، لتندلع منه ثورة فرنسية كبيرة أطاحت بالنظام الملكي. وأُعلنت الجمهورية عام 1792، وتم إعدام الملك والملكة، لتكون أول جمهورية في أوروبا. واستمرت إلى أن أُعلنت الإمبراطورية الفرنسية عام 1804 على يد نابليون بونابرت، بعد الانقلاب العسكري. والذي قاد فرنسا في أزهى عصورها لتحتل الكثير من بلاد العالم، حتى عام 1814.
بعد هزيمة بونابرت وقعت باريس في قبضة الروس والحلفاء، واستقر الأمر برجوع الحكم الملكي متمثلًا في لويس الثامن عشر. لتندلع بعدها عدة ثورات وتغيرات في نظام الحكم، حتى ثورة فبراير 1848، التي تشكلت بعدها الجمهورية الفرنسية الثانية. ثم اجتاح مرض الكوليرا ليفتك بأهل باريس. قامت الثورة الصناعية لتأتي رياح التغير والنمو الصناعي لباريس، في عهد الإمبراطورية الفرنسية الثانية. وعرفت باريس في هذه الفترة تطور في التصميم العمراني والشوارع تحت يد البارون هوسمان. بعضًا من هذه التصميمات والوجهات في الشوارع ما زالت موجودة إلى اليوم.
سقطت الإمبراطورية الثانية في زمن “الحرب الفرنسية البروسية” بين فرنسا وألمانيا. لكن مع انتهاء الحرب عادت فرنسا لمجدها، بل ونمت من جديد. ورمز هذا النمو تمثل في بناء برج إيفل، أطول مبنى في العالم آنذاك، كما فُتح مترو الأنفاق عام 1900.
الحرب العالمية الأولى والثانية والتاريخ الحديث
تأثرت باريس تأثر واضح بالحروب العالمية لأنها كانت أولى المشاركين في الاثنين. ففي الحرب العالمية الأولى كانت مسرحًا للحروب بين إنجلترا وفرنسا وألمانيا، ومسرحًا للمفاوضات أيضًا. كما أنها أصبحت محط أنظار الفنانين وأدباء العصر. أما في الحرب العالمية الثانية فشهدت سقوط فرنسا في قبضة هتلر عام 1940، وكادت أن تشهد نهاية الجيش البريطاني في معركة دنكريك. حيث قام هتلر بدخول باريس والمرور بقوس النصر والصعود إلى أعلى برج إيفل على الأقدام، بعد تدمير أهل باريس للمصعد الخاص بالبرج في محاولة لمنع هتلر من الصعود. لم يتم تدمير المدينة، فبعد هزيمة هتلر جاءت الأوامر بتدمير باريس قبل المغادرة. لكن رفض القائد الألماني ديتريش فون شولتيتز للأوامر، أنقذ باريس.
شهدت باريس نموًا واسعًا بعد تلك الحروب. وتناقص النشاط الصناعي وزاد النشاط السياحي والتجاري. وتوافد عدد كبير من المهاجرين إليها. كما تناقصت البطالة وأصبح معدل دخل الفرد في باريس، واحد من أعلى معدلات الفرد الأوروبية. وتتمتع باريس الآن تحت النظام السياسي الجمهوري الديمقراطي، بنمو وتوسع هائل.
التاريخ الثقافي والفني والأدبي لباريس
باريس هي المقر الرئيسي لظهور الأدب الفرنسي والثقافة بشكل عام. لأنها المدينة التي احتضنت الأدباء والشعراء والأعمال الفنية.
الأدب الفرنسي
بداية الأدب الفرنسي نلاحظه في العصور الوسطى. واعتمد في الغالب على رواية الأحداث الحربية لأبطال شجعان، سواء من خلال القصيدة الملحمي أو الشعر الغنائي. وكذلك شعر الغزل والشعر الرومانسي. وأهم أسماء هذا العصر من الشعراء والأدباء: برنارت دى بينتادورن، ماركابرو، كريتيان دي تروا، روتيبوف، رومان دى رينارت الساخر. ومن أهم الأعمال الأدبية: فرسان الطاولة المستديرة، أغنية رولاند، ومهزلة مايتري باتهيلير. وكان للأدب البرجوازي والأدب المرحي، والأدب الساخر والأدب العامي نصيب كبير.
في القرن السابع عشر، بدأ ما يُعرف بعصر النهضة، حيث كانت باريس ظاهرة أدبية في أوروبا. ومن أهم ما كُتب في هذا العصر: غارغانتوا وبانتاغرويل بقلم فرانسوا رابليه. وروائيين كثر مثل مدام دي پومپادور، والشاعر جييان دى لافونتاينى.
بحلول عصر التنوير، شهدت باريس نمو كبير في الأدب والفلسفة مع نخبة من المفكرين الذين شكلوا الثقافة الفرنسية. أهمهم: بول فيرلين، آرثر رامبو، جان بول سارتر، فيكتور هوغو مع رائعته “البؤساء”، وغيرهم العديد من رواد هذا العصر.
أما القرن التاسع عشر والقرن العشرون، فقد عرف الأدب الفرنسي فيه تجديدًا للدماء وتحديثًا للآداب في مختلف المجالات. فصعد الأدب الرومانسي الكلاسيكي والواقعي ثم أدب البارناسيانيسمو والأدب الرمزي. مع مجموعة كبيرة من الأدباء والمفكرين الفرنسيين الذين انطلقوا من باريس نحو العالمية. نذكر على وجه التحديد الشاعر الكبير “شارل بودلير” الذي أثر فنه في العالم كله. ورائد الشعر الحر، جول لافورج. وأخيرًا ظهور الأدبي السريالي، الأدب الوجودي، ومسرح اللامعقول، وكلها حركات أدبية بدأت من باريس.
الفن بجميع أنواعه
تتميز باريس بأنها مسرح لأهم الفنون العالمية لكبار الفنانين. ستجد الفن الهندسي والمعماري في الكثير من المباني الأثرية والمعالم الأثرية القديمة والحديثة. ستجد لوحات فنية لا يوجد غيرها في جميع بلدان العالم، والرسامون الفرنسيون كثر مثل: فيردناند إيلي، كلود لورين، جان بروك، هوراس فيرنيه، جورج براك. وقد أخرجت باريس للعالم كبار من المغنيين مثل: باربارا، جوني هوليداي، جين أوبيرت وغيرهم. وكذلك أخرجت نحاتين وممثلين إذ تمتلك السينما الفرنسية حصة كبيرة من الأفلام القيمة، سواء السينمائية أو التلفزيونية والأفلام المصورة. الشارع الباريسي نفسه عبارة عن لوحة كبيرة من الفن، وعندما تمشي في شوارع باريس ستجد مزيج رائع من الفنون القديمة والحديثة ممزوجة بروائح طيبة وموسيقى كلاسيكية.
ثقافة ورقي سكان باريس
يمتلك أهل باريس حس راقي جدًا، يحبون الموسيقى والرقص والفن. يحبون الطعام اللذيذ ويمتلكون عادات وتقاليد يرجع عمرها إلى مئات السنين. هم عاشقون للرومانسية والكلاسيكية في التعامل مع النساء. نساءهم تتمتع بحس عالي في الموضة والجمال. الشعب بأكمله لديه التزام تام بالمواعيد ويقدرون النظافة ويحترمون ثقافات الغير واختلافها. يحبون المرح ويفضلون الحياة المفعمة بالحرية والنشاط.
جامعات باريس
جامعات باريس معروفة بفضلها العلمي الكبير على العالم كله، إذ تخرج منها أفضل مثقفين وعلماء العالم. وما زالت بعض مبانيها القديمة تشهد عن روعة ما قدمته باريس للإنسانية في العلوم. أهمها جامعة السوربون التي انقسمت الآن إلى 14 جامعة. ولكنها بُنيت على يد روبيرت دي سوربون في عهد لويس التاسع عام 1253.
المطبخ الفرنسي
يتمتع المطبخ الفرنسي بشهرة عالمية كبيرة. وأشهر الطابخين العالميين يأتون من باريس بالتحديد. حيث يمتلك الشارع الفرنسي حس تذوق عالي، وخبرة كبيرة وإبداع بمجال فنون الطبخ والتقنيات الغريبة والمكونات الفريدة من نوعها. ومن أهم الأكلات التي تشتهر بها فرنسا، هي الجبن عمومًا. حاليًا يعتبر المطبخ الفرنسي ضمن قائمة التراث الثقافي البشري الغير مادي. فعند زيارتك لباريس لا تنسى أن تستمتع ببعض المأكولات من أشهر طابخي العالم، ولكنك ستحتاج في ذلك لمبلغ كبير.